Wednesday 15 October 2014

الوطن كنز لا يفنى


كأيِّ نعمة حبانا الله بها، يتربع الوطن على عرش كل النعم التي نمتلكها، فبعضنا يرى وطنه في أرض عاش عليها، وترجع جذور أصوله إليها، والبعض يرى وطنه في عيون شخص يعني إليه الكثير، والبعض الآخر يرى وطنه في مكان محدد يحمل ذكرى، تهدئ من روعه، حينما تتلاطم به أمواج الحياة، وتلقيه على شاطئها مُبعثراً.

ولكن مهما اختلفت الأوطان علينا، تبقى عظمتها تكتسح جميع مشاعرنا وأحاسيسنا، وتظل تلك العظمة موحدة بيننا جميعاً، وتهمنا مصلحة الوطن قبل مصالحنا الشخصية، لا لشيء آخر سوى لأنها غالية على أرواحنا، ولا نستطيع رؤيتها ضعيفة أو مكسورة الجانب، لذا نبذل قصارى جهدنا، لأن نسمو بها ونضعها نصب أعيينا في جميع خطانا، حتى تسمو هي في المقابل بنا، وتضعنا على أولى أولياتها، فدوام عزة الوطن، من دوام عزتنا بين الأمم، وارتقائنا في عيون أنفسنا أولاُ.

أوطاننا ما هي إلا حضن دافئ، يضمنا ما أن نحتاج إليه، بدفء الذكريات التي تغمر كل زاوية فيها، فبين حاراتها كبرنا، وعلى أرصفة شوارعها كتبنا حروف أبجديتنا الأولى، وعلى شواطئ أبحرها، بنينا أول قلعة رملية بسواعدنا الصغيرة، قبل أن تغطيها المياه، وتجرها إلى قعر بحر، شربنا منه بملء إرادتنا، وبالرغم من ملوحته، إلّا أنه بلل ظمأ غربتنا، التي أمضيناها سنين طويلة بعيدين عنه، بعذوبة حبنا له واحتوائه لنا.

أمانة في أعناقنا من جملة الأمانات التي حظينا بها هو الوطن، لذا ما علينا إلّا أن نكون خير مستأمنين عليه، ونعمل على الحفاظ عليه وعلى ممتلكاته، كأنه عضو يسكن بين وجداننا، فحتى وإن تغربنا عنه، يبقى الحنين إليه حاضراً، صبح كل يوم، وعلى رأس قائمة أولوياتنا، عندما نتلفظ أنفاسنا وتعلن الحياة وجودنا في عالمه، وحتى إن تعرض لمكر الخانئنين، فإن خوفنا عليه سينجيه، تماماً كالوليد الذي استقبله عالم أمه والعالم أجمع للتو، بعد رحلة طال فيها الانتظار، وتخاف عليه والدته من نسمة هواء عابرة، تلقيه عليلاً دون أن تدري أو يدري.

عالم بوسعه، أم ثانية، بوصلة تحدد وجهتنا ومصيرنا، كلها مرادفات لمفردة واحدة، الوطن، فهنيئاً لكل وطن يعيش فينا، برغم الغربة والشتات، وقبل أن نعيش فيه، وطوبى لكل نفس تقدم للوطن، دون أن تنتظر مقابلاً، لأنها تعي بأننا جميعا زائلون، إما الوطن باق، لأجيال قادمة، ولعمر جديد، ولحياة تعقب حياتنا.
 
 

Saturday 1 February 2014

لاحمداً ولاشكوراً

يقضي الإنسانُ النصفَ الأولَ من عمره يحلُم بأن تتحققَ أحلامَه، فتجده قد كتب في أولى قائمة اهتماماته البسيطة فقط في بداياتها، كأول أمنية له "التخرج من الجامعة"، ويحاصرها هكذا بنمنمتين ليشيرَ إلى أهميتِها، هذا ما إن كان قد كتبها بلونٍ آخر ليلفت الأنظار ونظره هو بالأخص عليها. يكون حلمُه في بداية الأمر أن يتخرج بمجموع عالٍ يكافئ به ما بذله من جهدٍ طوال سنين جامعته، وأهم جهد في ذلك استيقاظه المُبكر كل صباح لأجل الجامعة (وكأنه يحمل الدكتور والجامعة جميلة صحيانه بكير). ثم تجده بعد ذلك يعترف رافعاً حاجبيه "أنا مابهمني بقديش أتخرج المهم أتخرج وبس".

وبالفعل يتخرج أخونا العزيز، وينال شهادته الجامعية بيمينِه، وتبدأ خلايا أحلامه تتكاثر بشكلٍ لامتناهٍ، فمنذ تلك اللحظة وصاعداً يبدأ كلُّ حلم يجرُأخاه. فها هو بعد الجامعة، يسعى إلى وظيفة لكي يوظفَ شهادتَه بمنحى يستعمل به مادرسه وذهبت به نصف عافيته وهو يغصب نفسه على  تعلمِه، ويجد الوظيفة-ولله الحمد- فيبدأ بمرحلة التمشيط على عروسة. عروسة تتناسب مع أيدولوجياته الخاصة، وعقله الأيبس من حجر الصوان. فيجدها بعد طول انتظار وعدة محاولات فاشلة له ولوالدته التي تدخل معه في مرحلة التفتيش عن عروسة لاتتناسب لعقل ابنها فحسب، بل للعائلة الكريمة جمعاء خشيةَ أن (تطلع عينهم) فيما بعد.
يعقدُ الابنُ قرانَه على تلك العروسة التي ليس لها لامنجى ولا ملجأ سوى الله، ثم مايلبث أن يبدأ في ترقبها شهر تلو الآخر علها تحمل بين أحشائها ولداً يجيء إلى الدنيا حاملاً اسمه، وكأن الموضوعَ سحر. تتأخر زوجته في الحمل ربما- بإرادة الله- وربما بسبب الضغط الذي وضعها تحته، فتجده عقد الحاجبين و(بلش ينفخ)، يرى الدنيا سواداً في سواد ولايردد إلا "الله يستر بس"، ناسياً أحلامه الأخرى التي رزقه الله بنعمة تحقيقها وكافأه عليها ومنهم تلك الزوجة الصابرة عليه.  يشاء الله فتحمل زوجته ويبدأ بفك (تكشيرته) شيئاً فشيئاً، وتنفرج أساريره فقط حتى موعد الولادة، فإن كان المولود المُرتقَب، ولداً، فرح فرحة لاتوصف، وإن كان المولود، أنثى، يفرح ولكنه ولابد أن يُتبع فرحته بجملة "الله يطعمنا الصبي".
وبالفعل يطعمه الله الصبي بناءً على طلبه ودعائه، فتجده يطلب أخاً لهذا الصبي (بلاش أخوه يتعقد من اللعب لحالو، حرام). لسبب ما يشاء الله هذه المرة أن يسقطَ الحمل في أشهرِه الأولى، فتعود الكشرةُ إلى تقاسيم وجهه وعلامات الاكتئاب، وكأنه نسي أن هذا الطفل -الرقم ثلاثة- لأطفال آخرين عنده وبصحة جيدة. وهكذا تدور السلسلة بين مد وجزر، من طلب إلى طلب، نطلب دون أن نكترثَ أن طلباتنا فاقت حدود مانقدمه لله، منها مثلاً على الأقل شكره وقول "الحمدلله".

 جُمُّ مشكلتُنا هذه الأيام يقع في أننا نطلبُ كثيراً ولكننا ننسَ.. نعم، ننسَ أن نشكرَ كثيراً، تماماً مثلما نطلب. فكم مرة سجدنا سجدة شكر، وكم مرة رفعنا أيدينا بطلب! ننسى ونتغافل عن كل تلك النعم التي كنا نتمنى أن يحققَ اللهُ لنا نصفَها، وعندما فعلاً رُزقنا بها (شلفناها) وراء ظهورنا وبدأنا برحلة البحث عن المزيد والمزيد والمزيد.


اللهم اجعلنا لك شاكرين.. لك ذاكرين.. لك راغبين.. لك راهبين ..