Tuesday 11 August 2020

.. قفْ على ناصيّة ذكراك وقَاتلْ

 وستمرُّ السنون.. 

وفي لحظةٍ ما، ستصطف طابوراً أمامَ عيّناك كلُّ تلكَ اللحظات التي سيّطرَ عليّكَ فيها شعورُ الهزيمة والاستسلام، بيْدَ أنَّكَ رفعتَ جبهتكَ لأعالي السماء وواصلتَ المسير دونَ تقاعسٍ أو خُذلان بكلِّ نضالٍ وشموخ.

سيلمعُ في ذهنك شريط عمركَ الذي مَضى على عُجالة، وحينها- لذة الفخر- وحدها من ستسيطر على مائدة تلكَ الذكريات؛ بكلِّ ما فيها من أصناف، وسواءً أاستطعمتَ مذاقاتها، أم عافته نفسكَ لمرارتها وخلوها من الطعم، ستكون فخورا.. فخوراً فحَسبْ.. 

فخرك سيحتل المشهد ويكافأ قرارك الذي امتد لأعوام وعقود لا بأس بها من الزمان لأنّ تكمل مضغ وجبة قدرك، بِكلِّ ما تسلحت به من قوة ومسؤولية، مُنذ نعومة أظفارك النديّة التي رافقتك مِن مهدِّ طفولتك الأول، حتى شاخت معَ طيّات الزمان العاجلة، وحالَّ عليها أحوال عدة؛ ما وُجدت إلّا لتبرهن تبدلَّ الحال، وبقاءَك شامخاً، أصيلاً، أَبيّاً في وجه كل تيّار تكالبَّ عليك، وتهافتت من بعده عليكَ المواسم بخريفها وصيفها وربيعها وشتائها.

وكنتُ "أَنت" مهما تفاوتت الظروف، وتعاقبت الأقدار، يزدادُ نضجكَ كلما ازداد موقد الحياة حرارة عليّك، وتبقى جميلاً بعبقِ تلكَ النكهة التي لن تكونَ إلّا لكَ مُنذ أنّ كنتَ نطفةً في عالم الذّر. 

لذا تذكرّ على الدوام لأنّ تعمل من أجلِّ تلكَ اللّحظة، ولا تنتظر مردودها في وقتك الآني، استشرف مستقبلك، وستهون كلُّ تلكَ الدوامة التي لطالما سحبتكَ في موجها المتلاطم حتى ضلَّ مؤشر بوصلتك الاتجاه، ثم قررتَ العودةَ لذاتكَ وتداركتَ أنّ الحياة ما هيَّ إلّا رحلة فناء يُسيرها لطفُ الله وعنايّته فقط، ولا نَجني في الخواتيم إلّا سيرةً عَطرة، وبذوراً لمشاعر طيّبة غُرست في أرواح من حولنا، علّها تُثمر مِن بَعدِنا، إذا كُتِبَ عليّنا الرحيل غفلةً دونَ وداع أخير.


غدير المزيني                     









Sunday 9 August 2020

Thursday 9 April 2020

"درسُ "كورونا



جائحةٌ لكائن أصغر من أن يُرى بالعيّن المُجردة، ولا نقوى على التعرف على ملامحه عن كَثب، غيّر وما زال يغير شكل العالم بأسره، وقلبَ حالَنا رأساً على عقب، وبدلَّ الموازين، والأفكار، والاهتمامات، ورتم الحياة الروتيني لشيء يشبه العزلة والتقوقع لكل واحد فينا على نفسه، حيث هو وذاته والوقاية من شيء لا يشبه أي شيء، وحتى إن مضى إلى الاختفاء؛ فإنه حتماً سيُحرَّص منه في المستقبل- إذا ما تجاوزنا اختباره المُباغت

في هذه الجائحة دروس وعلامات، تجعل صفوف الدول والأفراد يصطفون جنباً إلى جنب، للتفكر والتأمل، وإعادة النظر في موازين القوى والدفع والجذب وأمور عديدة أخرى يطولُ شرحها، ولكن الدرس الجوهريّ برأيي الذي يحط عنده الجمل بسنامه، وهو ما خرجت به بنفسي من بين جُملة تلك الدروس، ألا وهو: تعلُّم فن عيش اللحظة لذاتها دون ترقب المستقبل البعيد، كونه وبكلِّ بساطة تتغير ملامحه بقدرة الواحد الأحد، وفي بُرهة من الزمن، ودون سابق إنذار، تماماً كما حدث في اختبار "ولن اسميها أزمة" كوفيد-19

هذا الفيروس ما هو إلا اختبار، و"بريك" لأخذ نفسٍ سريع من دوامة كانت ستُطيح بنا من لهثنا وراء مستقبل لا نضمن وجودنا فيه، ولكن ونظراً لهلعنا في الحرص عليه، أخذنا بالتفكير به وأَمضينا الجهد والمال والوقت بكل تأكيد للتأهبِّ في الوصول إليه، والمُضي قُدماً في تطوير سُبل العيش فيه، لا بل واستثمارها لتأمين متطلبات حياة لا تنتهي، بَيْد أننا -وبين هذا وذاك- نسينا أن نعيش اللحظة، ونتريّث أكثر في أمورنا، رُبما لاستنشاق شهيقٍ صغير قبل أن ينقطع بنا المشوار فلا نعود قادرين على الوقوف على قارعته لاستشراف ملامحه "المجهولة"، وهنا انقضى جلُّ أعمارِنا

هذه الجائحة، وذلك الحجر في المنازل، والابتعاد عن علاقات كانت تُشكل صُلبُ حياتنا، ما هي إلّا رسالة للتفكُّر البطيء، وكلما طالت فهي تُمهلنا فرصاً جمّة للتريث في النظر المليل في قرارتنا، وتغيير مبادئنا الباليّة وآراء مضى جزء كبير من حياتنا ونحن على إيمانٍ تامٍ بها، وإذا لم يكن وقت "كورونا" هو الوقت الصائب لإحداث هذا التغيير؛ فأيّ وقت هو الذي سوف نواجه أنفسنا التي شبعنا ابتعاداً عنها حتى بتنا لا نعرفها؟ 


غدير المزيني

Friday 27 March 2020

"كُلُّ مُتوقعٍ آتٍ"



لطالما استوقفتني مقولة ليّست كأيِّ مقولة جاد بها إمام الحكمة علي بن أبي طالب- كرم الله وجهه- حينما قال فيها: "كل متوقع آتٍ"، فمُنتظر الفرح حتماً سيجني ثماره ومهما طال انتظاره، وصاحب اليقين بفكرته ستتحقق، وكذلك مسيء الظن سينال إثم ظنونه قبل أن تنعكس على غيره فيرى طيفها واقعاً أمام مقلتيه؛ لذا فلتتوقع ما تتمنى

وعلى قدر أمنياتك تيقن من حجم تلك اللّذة المُتلونةً بألوان الفرح والفرج والانتصار على كل ذلك الخوف الرهيب الذي أحاط بها لعقود رُبما من الزمان حتى بات الرهان على تحقيقها أقرب إلى المستحيل

ليتنا نعلم أن قانون الجذب لا يقتصر كما تعلمنا في صغرنا على جذب بُرادة الحديد لأقطاب المغناطيس فحَسب. فالحقيقة هي أنه حتى لأحلامنا ولشغفنا الذي يحاكي عَنان السماء قوة للجذب أيضاً، ولكن الأقطاب هنا، وفي هذه الحالة، مختلفة فهي نحن.. نحنُ من نتجاذب مع أحاسيسنا ومشاعرنا ويقيننا الأعمى بقدرة الله (جلَّ في علاه) على حصولها، وهنا يكمن التحدي الحقيقي والانتصار الفعليّ وهو اليقين بقوتنا الداخليّة من بعدها؛ لتذليل الصعاب والتحديات، مهما تبايّنت وتنوعت في سبيل الوصول إلى ما نطمح إليه، وما يليق بنا، ويكلل رحلة صبر لطالما امتطينا جواد آمالها، وتوجهنا ببوصلة قُلوبنا للمُضي قُدماً فيها بكلِّ إرادة وعزم وتصميم

في كل محنة أو اختبار يَمرُّ بِنا علينا أن نتوقع مروره بسلام، حتى يمر بسلام، وأن نعلن الخصام- لا بأس- مع أفكارنا السلبية، وسيّل الإغراءات الشيطانية المُفعمة بأجواء الهزيمة والتشكيك بلائحة المُسلمات والآيات التي تنفخ روح الإيجابية بأرواحنا المُشعثة من خلالها، بيْدَ أننا ولجهل معين مننا وضعناها جانباً حتى تراكمت أكوام الغبار عليها، فلا عدنا نلتفت إليها، خاصةً بعد أن أضنانا المسير في دروب مجهولة الوجهة، فما عاد أحدٌ مُتأكدٌ من ماهيّة خط نهايتها

فحوى القول يتلخص بعدم استكثار أمنياتنا على أنفسنا فنستبعد حصولها، بحجة أن الزمان أو حتى المكان لم يتوائم مع إمكانيتها، فنحرم فراشة أحلامنا، ودون رحمة، من الخروج من طيّات شرنقتها، ونحكم عليها بالتوهان بين سلسلة من الإحباطات اللامتناهية والإمكانيات التي نراها- "برغبتنا لا أحد سوانا- "قاصرة


غدير المزيني

Saturday 14 March 2020

.. اللهُ خيّرُ حافظ

لربما ترددت على أسماعنا، خاصة في الوقت الراهن، آية ليست كأيِّ آية، ومن شأنها أن تبث الراحة والطمأنينة في قلب كل من حولنا، أوردها الله عز وجل على لسان نبيِّه يعقوب عليه السلام في سورة يُوسف، إذ قال فيها جلَّ في علاه: "قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظ وهو أرحم الراحمين (64)".

القارئ لتلك الأحرف الثمينة والكلمات اللامعة بالإيمان التام بقدرة الله سبحانه وتعالى يلمس معجزة الله التي تنفرد بين حرفين لا ثالث لها كُن لتكون، ذلك الإيمان بقوة الخالق وحكمته التي تشمل كل جنوده من مخلوقات مريبة وفيروسات جديدة بثت الذعر في قلوبنا هذه الأيام، حتى باتت تُسابق -والعياذ بالله- تسليمنا لمشيئة الله، التي توارت -وأخشى أن أقولها- بين قلق وخوف وتعقيم بين ثانية وأخرى وفي كل نفسٍ نتردد قُبيل أن نبادر في شهيقه، في زمنٍ اختلفت عوامل الحياة فيه بكل ما فيها.

كلمات نبي الله يعقوب عليه السلام، إذا ما أمعنا النظر فيها، هي لم تأتِ من فراغ، فخوفه على ولديه، جعلته يسلم مخاوفه كافة، وفزع قلب أبوته، لحفظ الله، ولا لأحد سواه. ومن ذلك اليقين، ومن تلك القوة الإيمانية الصافية، تحققت أمنيته بعودة ولديه له يُوسف وبنيامين عليهما السلام كما لم يشهدهما من قبل، فأين نحن من ذلك اليقين؟!

وهنا نحن نقف، وحَبذا إذ ما اقتبسنا طيفاً واحداً من قوة اليقين تلك في ظلِّ كل الظروف الشائكة التي نمر بها، لنردد بيقين "الله خير حافظ وهو أرحم الراحمين"، ملتمسين معانيها بالقلب قبل أن تترجمها حاسة نطقنا، فنؤمن بها بكل حواسنا ونستشعر عظمتها ومشيئة الله فوقها، التي لا يضاهيها كائن في هذا الوجود بأسره؛ لنردد: "فاللهم إنك خير حافظ فاحفظنا وإنك أرحم الراحمين".

غدير المزيني

Wednesday 4 March 2020

ارحموا مَن في الأرض يَرحمُكم مَن في السماء


تتكاثرُ الصراعاتُ والأوبئة في زمن بات مختلفاً تماماً عما عهدناه في عصور أجدادنا لنسمع بسُلالات لأمراض لم نكن نعي أننا سنسمع بها يوماً ما. فتارةً انفلونزا لطيور، وآخراً لخنازير، ومؤخراً لمرض يتمدد كالفقاعة في قارات وبلاد العالم دونَ استثناء "كورونا"، المتكاثر فزعه بين شعوبنا ومجتمعاتنا كالنار المُتولدة في الهشيم

كلُّ بلاء ـ وإذا ما أمعنا النظرـ في ازدياد مُطرد يحاصرنا من كل حدبٍّ وصوب، فيما يتناسب عكسياً مع مفردات ومشاعر في طريقها للاندثار والانقراض، ولرُبما سنشهدها يوماً مُحنطةً في متاحف من ندرتها؛ وهنا يتربع على صدر القائمة وهذا على سبيل الذكر لا الحصر: المروءة والحياء، والأهم من هذا وذاك مخافة الله ـ وهنا القصد سراً قبل العلن

وجه الشبه بين "كورونا" والظلم، الذي نتنفسه كل يوم ولا كمامة لارتدائها للوقاية منه، حتى بات تلوثه يخنقُ روح العدالة فينا والفطرة السليمة الحيّة التي جُبلنا عليها، يكاد يكون لا يختلف بشيء سوى بتلك الحروف التي تهجأ مفردتا الكلمتين، ولم لا، ونحن نشهد القهر في البيت الواحد وبين أفراد العائلة الواحدة يزداد بمرور الأيام، ويُبهرنا بمشاعر القسوة التي لم نشهد لها مثيل من قبل؛ فهذا هو الأخ يقسو على عضده، وها هي الابنة تتنحى عن لحمها ودمها ببرود جامح، وها هم أولاد العم مواقفهم المتزايدة لا تزيد شيئاً سوى من يقينك بتلك المقولة التي تقول "الأقارب عقارب"، لتؤمن وتُسلِّم بها عن ظهر قلب

وبين هذا كله نختلف في ألواننا ومللنا ورُبما في أجناسنا ونتلاقى جميعاُ عند علامة الاستفهام التالية: أين الرحمة؟ خاصةً إذا ما توجهت بوصلة قلوبنا وأكفنا نحو المولى؛ سائلين إياه بدفع البلاء والأسقام عن بلادنا وأجسادنا؛ راجيين أن تغشانا رحمته التي وسعت كل شيء، وبيْدَ أننا نراها فيما حولنا ونلمسها في كل طريق نسلكه وفي كل درب نتوجه إليه، ما زلنا نقسو ونظلم ونأكل الحق دون أدنى مراعاة لمسكين أو ضعيف أو حتى يتيم، وكأننا نستثني أنفسنا من رحمة عباد الله في أرضه، ثم نستغرب من عدم نيلنا رحمة رب الأرباب، ونندهش بكل هذا السخط الذي يتنزل علينا بل ويستقصدنا؟

دعوةٌ هنالك بين السطور وفي ذيلِّ كل كلمة خُطت للتحلي بالرحمة؛ بدءاً من أن نرحم ذواتنا؛ كيّ يُنظر لنا بعين العفو من رب كريم فيرحمنا ونحن المقصرين المذنبين. ولنُكن ممن قصدهم سبحانه وتعالى وخاطبهم في كتابه بنعتهم بـ "أولي الألباب"ـ أصحاب العقول النيّرةـ ممن ربطوا بين البلاء وتقصيرهم على الفور، وراجعوا صفائح أعمالهم؛ فمسحوا السيئة وأردفوها بحسنة تنعش الروح بين طوابير أعمالهم َّعلى اختلاف مواقفها وتبايّن ردود أفعالهم نحوها، فإنه جل في علاه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما في أنفسهم


غدير المزيني


Wednesday 19 February 2020

! مصائبُ قومٍ عندَ قوم فوائدُ

تقعُ في مصيبة، فتتوقف عن التفكير، تُحيط بكَ هالةٌ سوداء من الإحباط واللامبالاة والهموم التي تتهافت عليك من كل حدبٍ وصوب، وكأنها تنتظر مد الاكتئاب أن يغمرُ شاطئك حتى ينفرج انحسارها وتتنوع بين مدٍ وجزر، ثم لا تلبث أن تتكاثف كسحابٍ في سمائك الشاحبة لتهطل بغيثها المُنهمر اللامنقطع عليك بأحاسيس جمّة محورها الاضطراب والتقاعس عن مواصلة الدرب. 

ثم تقرر بغتةً الخروج عن صمتك، فتبدأ باتخاذ قرارات على رأسها.. الانعزال والابتعاد عن كل من حولك مرة أخرى، وتختفي خلف زجاج عينيّك، لتبصر كل الأحداث والأشخاص من حولك وأنت خارج الدائرة، ولكنك ودون أن تلاحظ على اتصالٍ صامتٍ غير مباشر بها.

وحالما تتخذ وضع المُتنحي المشاهد عن بعد لسيّل الأحداث والمواقف العارمة من حولك؛ هل لاحظت أن بعضهم قد استفاد من مصيبتك هذه؛ على اختلاف حالها وكيفية حدوثها ودرجة ألمها وما أصابت قلبك من وجع؟ ! 
اسأل نفسك: هل آن الأوان أن تؤمن وتسلِّم بقول لطالما سمعنا به وهو أن "مصائب قوم عند قوم فوائد"! 
 فعليّاً.. كم من مصيبة نزلت بنا لإرادة آلهية نجهل حكمتها، ثم تقاعسنا بسببها وأعطينا من خلالها "الفرصة" على طبق من ذهب خالص لذلك الشخص المتربص الذي ينتظر وقوعنا، كي يخطف البساط من تحت أرجلنا ويلمع، وكأننا نحن من ندفع له تكلفة حساب توهجه في سماء غلب عليها إحباطنا لظرف كنا قد مررنا به. 

لكل تلك الظروف التي كانت سحابة ثقيلة نوعاً ما في سماء صيفنا، ومهما كانت شدتها وقوة برقها ورعدها في اضطراب خطة مسيرنا نحو القمة، علينا أن نتعلم مهارة وضع الأمور والظروف والمواقف، ولربما الأشخاص كذلك، في نصابها الصحيح، دون أن تطغى كفة ميزان على توأمتها، ودون أن نقدم الفرصة لذلك المُترقب لفشلنا لكي ينال مراده على حسابنا. 

الأمر - ودون أدنى شك- يحتاج إلى تدريب ذواتنا قدر الإمكان وبالقدر المطلوب على تجاهل مُصابنا مَهما كبر؛ خاصةً عندما يتصارع مع مصالحنا، وتقديم مصلحتنا؛ لجنيّ ثمارها بأنفسنا والاستمتاع بها، فلعلَّ وعسى أن تقلل متعة انتصارنا من فجيعتنا ولربما توأدها في مهدها. وعلينا أن نُدرك أن الانتصار الفعليّ لا يعد نصراً حقيقياً في الرخاء، وإنما ما يجعل مذاقه ينضج ويستطيب ويكتمل يّنعه هو مقدار الصعوبة التي خرج من رحمها حتى لقط أنفاسه الأولى باتجاه شرنقة الحياة. 


غدير المزيني 

Tuesday 11 February 2020

اظفر بنفسك .. تربت يداك

   

بين رتم الأيام المتسارع، نتصارع على حلبة الحياة مع مواقف جَمة، بعضها متوقع وآخر لم نكن نتوقع أن نلتقي فيه في صحائف أيامنا، وبين هذا وذاك تجدنا نساوم ونراهن ونحتار كيف التعامل مع وقعها بشكل يناسب ضمائرنا وما جُبلنا عليه لعقود طويلة من الزمان.

وما أكثر خساراتنا! إذا ما رصدنا ما خسرناه بورقة وقلم، وسجلنا جرداً لكل المواقف التي لطالما مررنا بها ومرت بنا، وفي المقابل أيضاً علينا أن نقر بكسبنا وما ربحناه في تجارة الحياة، وهكذا تأرجحنا في كفتيّ الميزان بين عقائد ومُسلمات لطالما كانت الحبل الذي نربط بها جواد أعمارنا ونشدد به تارةً ونرخي تارةً، للمُضي قدماً أو حتى الرجوع إلى الخلف، لتصحيح مسار أو إعادة النظر فيما جدولناه في مذكراتنا التي سنبقى نذكرها ونعيش على عبقها إلى يوم يبعثون.

لكن الأجدى والأهم بين كل تلك الخسارات والمكاسب، أن نكسب أنفسنا في المقام الأول والأخير، وأن نجعل لها إطار ذهبي عيار 24 لا يصدأ ولا يتغير لونه يحفظها من تيارات الزمان وعدوى الوجوه التي نلتقيها بأشكالها المتغيّرة، وطالما أننا وفي أيِّ موقف- مهما صغر وقعه أو كبر- كسبنا أنفسنا، فسحقاً لكل خساراتنا، وطوبى لنفسٍ عزيزة يرتبط صداها بتردد اسمنا ما حيينا.

وعلينا أن نعيش لنسأل ذاتنا يومياً السؤال التالي: "ما قيمة أن نكسب كل شيء ونخسر أنفسنا"؟

ما قيمة أن نكسب صفقة بهتاناً وزوراً وقد خسرنا مبدأً كنا لطالما نؤمن به إذا ما فرقتنا الطرق ووقفنا على قارعتها، وما تلك الجدوى التي سنجنيها من علاقة كانت لنا كل شيء، ولكنها استهلكت بقايا الروح فهمشتها ودثرت الحياة فيها! وما الفائدة التي سنقدمها لذواتنا قبل الآخرين عندما ندوس على كرامة الحياة بأعيننا ونقبل بحياة لا تليق بنا ولا تمثلنا حتى تجعلنا نتعرف على أنفسنا لأول مرة كلما هممنا للنظر إلى المرآة! أسئلة كثيرة ستتردد علينا وإجابتها مجتمعةً واحدة بأن الكسب الحقيقي هو نفسنا بالطبع وفي أحسن تقويم كما خلقها بارئها، وأيُّ كسب فيما سواها هو مؤقت يزول بزوال مؤثره ثم لا نلبث أن نرثيه.

غدير المزيني

Friday 3 January 2020

"شهادات "فولسو


يحدث أن يتخرج شخصاً بتقدير عالٍ من كلية لا بأس بها واختصاص يُشار إليه بالبنان، فتجد والده يَشدُّ الظهرُ به كونه مهندساً أو طبيباً.. وألخ من وظائف ارتبطت بـ"برستيج" اجتماعي معين في أذهاننا لعقود طويلة من الزمان حتى حاوطتها صورة نمطيّة لتصنيف أصحابها ممن يمتلكون شهادات الاعتراف بها على أنهم على قدر عالٍ من المعرفة والاطلاع والأسلوب المُنمق. 

وهنا كانت الطامة.. كبرنا وعاصرنا وعاشرنا شخصيات جامعية كثيرة تحمل شهاداتٍ إن صح القول - "وهميّة"- لا تمدُّ إلى الواقع بِصلِّة، وكأنها "فولسو" يغركَ شكلها، بيْدَ أنَّ حقيقتها جوفاء، فارغة تفتقر إلى أدنى المقومات على الصُعد كَافة من التعاملات الإنسانية، والدرايّة بالقواعد القانونية التي نستمدها من شرعنا الحنيف. لذا فلا تستغرب إن وجدت أخانا في عمله يباشرُ بتصاميم لأبنيّة ومصانع، في حين أن عقله يفتقر إلى الكثير من العمار، وكلمة الكثير لا تصف مأساة الحقيقة مهما وصفت الكلمات. 

لذلك علينا جميعاً أنَّ نقفَ وقفة في تربية نشأ جديد تتواءم مخرجاته التعليمية مع معايير أخلاقية وتعاملية عدة نغرسها فيه منذُ الصغر، حتى تكون بكفتي الميزان سواء لا يطغى أحدهما على الآخر. فما فائدة وجدوى الشهادة إن كانت حبراً على ورق لا تغير من فحوى كينونة الشخص وما جُبل عليه من مبادئ وقيم باتت اليوم في عصر الانقراض في زمن اختلط به الحابل بالنابل، حتى أضحى صاحب الشهادة من فئة الـ "فولسو" جاهلاً بالعديد.. العديد.. من الأمور الحياتية المعيشية التي لا يمكنه أن يحيى حياة سليمة دونها، فكيف له أن يصبح قبطان سفينة ويبحر في مصاعب الدنيا وتحدياتها وهو لا يتقن إدارة الدفة والوجهة التي عليه اتخاذها؛ لتتفاجئ بفشل مزري للدكتور والمهندس..، وغيره من أصحاب المهن ذات الألقاب، عند دخوله معترك الحياة الحقيقي! 

غدير المزيني