كأيِّ نعمة حبانا الله بها، يتربع الوطن على
عرش كل النعم التي نمتلكها، فبعضنا يرى وطنه في أرض عاش عليها، وترجع جذور أصوله
إليها، والبعض يرى وطنه في عيون شخص يعني إليه الكثير، والبعض الآخر يرى وطنه في مكان
محدد يحمل ذكرى، تهدئ من روعه، حينما تتلاطم به أمواج الحياة، وتلقيه على شاطئها مُبعثراً.
ولكن مهما اختلفت الأوطان علينا، تبقى عظمتها
تكتسح جميع مشاعرنا وأحاسيسنا، وتظل تلك العظمة موحدة بيننا جميعاً، وتهمنا مصلحة
الوطن قبل مصالحنا الشخصية، لا لشيء آخر سوى لأنها غالية على أرواحنا، ولا نستطيع
رؤيتها ضعيفة أو مكسورة الجانب، لذا نبذل قصارى جهدنا، لأن نسمو بها ونضعها نصب
أعيينا في جميع خطانا، حتى تسمو هي في المقابل بنا، وتضعنا على أولى أولياتها،
فدوام عزة الوطن، من دوام عزتنا بين الأمم، وارتقائنا في عيون أنفسنا أولاُ.
أوطاننا ما هي إلا حضن دافئ، يضمنا ما أن
نحتاج إليه، بدفء الذكريات التي تغمر كل زاوية فيها، فبين حاراتها كبرنا، وعلى
أرصفة شوارعها كتبنا حروف أبجديتنا الأولى، وعلى شواطئ أبحرها، بنينا أول قلعة
رملية بسواعدنا الصغيرة، قبل أن تغطيها المياه، وتجرها إلى قعر بحر، شربنا منه بملء
إرادتنا، وبالرغم من ملوحته، إلّا أنه بلل ظمأ غربتنا، التي أمضيناها سنين طويلة
بعيدين عنه، بعذوبة حبنا له واحتوائه لنا.
أمانة في أعناقنا من جملة الأمانات التي
حظينا بها هو الوطن، لذا ما علينا إلّا أن نكون خير مستأمنين عليه، ونعمل على
الحفاظ عليه وعلى ممتلكاته، كأنه عضو يسكن بين وجداننا، فحتى وإن تغربنا عنه، يبقى
الحنين إليه حاضراً، صبح كل يوم، وعلى رأس قائمة أولوياتنا، عندما نتلفظ أنفاسنا
وتعلن الحياة وجودنا في عالمه، وحتى إن تعرض لمكر الخانئنين، فإن خوفنا عليه
سينجيه، تماماً كالوليد الذي استقبله عالم أمه والعالم أجمع للتو، بعد رحلة طال
فيها الانتظار، وتخاف عليه والدته من نسمة هواء عابرة، تلقيه عليلاً دون أن تدري
أو يدري.
عالم بوسعه، أم ثانية، بوصلة تحدد وجهتنا
ومصيرنا، كلها مرادفات لمفردة واحدة، الوطن، فهنيئاً لكل وطن يعيش فينا، برغم
الغربة والشتات، وقبل أن نعيش فيه، وطوبى لكل نفس تقدم للوطن، دون أن تنتظر مقابلاً،
لأنها تعي بأننا جميعا زائلون، إما الوطن باق، لأجيال قادمة، ولعمر جديد، ولحياة
تعقب حياتنا.
No comments:
Post a Comment